الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مُتَّصِلًا بِالْآخَرِ، وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} (النِّسَاءِ: 73) فَقَوْلُهُ: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} مَنْظُومٌ بِقَوْلِهِ: {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} (النِّسَاءِ: 73)؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الشَّمَاتَةِ. وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (الْأَنْفَالِ: 6)، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ} (الْأَنْفَالِ: 5- 6). وَقَوْلُهُ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 92) جَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} (التَّوْبَةِ: 92) وَقَوْلُهُ: {قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (التَّوْبَةِ: 92) دَاخِلٌ فِي الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (النِّسَاءِ: 83) إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا قَلِيلًا} (النِّسَاءِ: 83). فَقَوْلُهُ: {إِلَّا قَلِيلًا} مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النِّسَاءِ: 83) وَقِيلَ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} (النِّسَاءِ: 83) عَلَى تَأْوِيلِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي رَحْمَتِهِ، وَاتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ، لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ. وَمِمَّا يَحْتَمِلُ الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النُّورِ: 36) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النُّورِ: 35) أَيِ الْمِصْبَاحُ فِي بُيُوتٍ، وَيَكُونُ تَمَامُهُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النُّورِ: 36) وَ {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} صِفَةٌ لِلْبُيُوتِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَاقِعًا خَبَرًا لِقَوْلِهِ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ} (النُّورِ: 37). وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا قَوْلُهُ: {وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (يُونُسَ: 61) مُسْتَأْنَفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُتَّصِلًا بِـ {يَعْزُبُ} لَاخْتَلَّ الْمَعْنَى؛ إِذْ يَصِيرُ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ: مَا يَعْزُبُ عَنْ ذِهْنِي إِلَّا فِي كِتَابٍ أَيِ اسْتِدْرَاكُهُ. وَقَوْلُهُ: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (الْبَقَرَةِ: 2) مِنْهُمْ مَنْ قَضَى بِاسْتِئْنَافِهِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى بِجَعْلِ {فِيهِ} خَبَرًا {لَا} وَ {هُدًى} نَصْبًا عَلَى الْحَالِ فِي تَقْدِيرِ " هَادِيًا ". وَلَا يَخْفَى انْقِطَاعُ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} (غَافِرٍ: 7) عَنْ قَوْلِهِ: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غَافِرٍ: 6). وَكَذَا: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} (يس: 76) عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (يس: 76). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (الْمَائِدَةِ: 31) عَنْ قَوْلِهِ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الْمَائِدَةِ: 32).
وَهِيَ كَلِمَةٌ آخِرَ الْآيَةِ، كَقَافِيَةِ الشِّعْرِ وَقَرِينَةِ السَّجْعِ. وَقَالَ الدَّانِيُّ: " كَلِمَةٌ آخِرَ الْجُمْلَةِ ". قَالَ الْجَعْبَرِيُّ: " وَهُوَ خِلَافُ الْمُصْطَلَحِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي تَمْثِيلِ سِيبَوَيْهِ {يَوْمَ يَأْتِ} (هُودٍ: 105) وَ {مَا كُنَّا نَبْغِ} (الْكَهْفِ: 64) وَلَيْسَا رَأْسَ آيَةٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ الْفَوَاصِلُ اللُّغَوِيَّةُ لَا الصِّنَاعِيَّةُ، وَيَلْزَمُ أَبَا عَمْرٍو إِمَالَةُ {مَنْ أَعْطَى} (اللَّيْلِ: 5) لِأَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: " الْفَوَاصِلُ حُرُوفٌ مُتَشَاكِلَةٌ فِي الْمَقَاطِعِ، يَقَعُ بِهَا إِفْهَامُ الْمَعَانِي " انْتَهَى. وَفَرَّقَ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ وَرُءُوسِ الْآيِ، قَالَ: " أَمَّا الْفَاصِلَةُ فَهِيَ الْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ مِمَّا بَعْدَهُ. وَالْكَلَامُ الْمُنْفَصِلُ قَدْ يَكُونُ رَأْسَ آيَةٍ وَغَيْرَ رَأْسٍ، وَكَذَلِكَ الْفَوَاصِلُ يَكُنَّ رُءُوسَ آيٍ وَغَيْرَهَا، وَكُلُّ رَأْسِ آيَةٍ فَاصِلَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ فَاصِلَةٍ رَأْسَ آيَةٍ، فَالْفَاصِلَةُ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، وَتَجْمَعُ الضَّرْبَيْنِ، وَلِأَجْلِ كَوْنِ مَعْنَى الْفَاصِلَةِ هَذَا ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ فِي تَمْثِيلِ الْقَوَافِي {يَوْمَ يَأْتِ} (هُودٍ: 105) وَ {مَا كُنَّا نَبْغِ} (الْكَهْفِ: 64)- وَهُمَا غَيْرُ رَأْسِ آيَتَيْنِ بِإِجْمَاعٍ- مَعَ {إِذَا يَسْرِ} (الْفَجْرِ: 4) وَهُوَ رَأْسُ آيَةٍ بِاتِّفَاقٍ " انْتَهَى. وَتَقَعُ الْفَاصِلَةُ عِنْدَ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْخِطَابِ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ بِهَا، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُبَايِنُ الْقُرْآنُ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ وَتُسَمَّى " فَوَاصِلَ "؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عِنْدَهَا الْكَلَامَانِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ فَصْلٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا، وَلَمْ يُسَمُّوهَا " أَسْجَاعًا ". فَأَمَّا مُنَاسَبَةُ " فَوَاصِلَ "، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فُصِّلَتْ: 3)، وَأَمَّا تَجَنُّبُ " أَسْجَاعٍ " فَلِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ سَجَعَ الطَّيْرُ، فَشُرِّفَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِشَيْءٍ فِيهِ لَفْظٌ هُوَ أَصْلٌ فِي صَوْتِ الطَّائِرِ، وَلِأَجْلِ تَشْرِيفِهِ عَنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْحَادِثِ فِي اسْمِ السَّجْعِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ آحَادِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِصِفَةٍ لَمْ يَرِدِ الْإِذْنُ بِهَا وَإِنْ صَحَّ الْمَعْنَى. ثُمَّ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: " السَّجْعُ هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ يُحِيلُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَالْفَوَاصِلُ الَّتِي تَتْبَعُ الْمَعَانِيَ، وَلَا تَكُونُ مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا ". قَالَهُ الرُّمَّانِيُّ فِي كِتَابِ " إِعْجَازِ الْقُرْآنِ " وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْفَوَاصِلَ بَلَاغَةٌ، وَالسَّجْعَ عَيْبٌ. وَتَبِعَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِ " إِعْجَازِ الْقُرْآنِ "، وَنُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيَّةِ امْتِنَاعُ كَوْنِ فِي الْقُرْآنِ سَجْعٍ. قَالَ: " وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ " قَالَ: " وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ، حُكْمُهُ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَبَيَّنَ فِيهِ فَضَلُّ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّفَاضُلُ فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ كَالتَّجْنِيسِ وَالِالْتِفَافِ وَنَحْوِهَا ". قَالَ: " وَأَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ هَارُونَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَلِمَكَانِ السَّجْعِ قِيلَ فِي مَوْضِعِ: {هَارُونَ وَمُوسَى} (طه: 70)، وَلَمَّا كَانَتِ الْفَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ قِيلَ: {مُوسَى وَهَارُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 48) قَالُوا: وَهَذَا يُفَارِقُ أَمْرَ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْخِطَابِ إِلَّا مَقْصُودًا إِلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ كَانَ دُونَ الْقَدْرِ الَّذِي نُسَمِّيهِ شِعْرًا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مِنَ الْمُفْحَمِ، كَمَا يَتَّفِقُ وَجُودُهُ فِي الشِّعْرِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ السَّجْعِ فَهُوَ كَثِيرٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ كُلُّهُ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ. قَالَ: " وَبَنَوُا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَحْدِيدِ مَعْنَى السَّجْعِ؛ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ مُوَالَاةُ الْكَلَامِ عَلَى رَوِيٍّ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: " سَجَعَتِ الْحَمَامَةُ: مَعْنَاهُ رَدَّدَتْ صَوْتَهَا ". قَالَ الْقَاضِي: " وَهَذَا الَّذِي يَزْعُمُونَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ سَجْعًا لَكَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ إِعْجَازٌ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ هُوَ سَجْعٌ مُعْجِزٌ لَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: شِعْرٌ مُعْجِزٌ، وَكَيْفَ وَالسَّجْعُ مِمَّا كَانَتْ كُهَّانُ الْعَرَبِ تَأْلَفُهُ، وَنَفْيُهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ حُجَّةً مِنْ نَفْيِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّ الْكِهَانَةَ تُخَالِفُ النُّبُوَّاتِ بِخِلَافِ الشِّعْرِ ". وَمَا تَوَهَّمُوا مِنْ أَنَّهُ سَجْعٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَجِيئَهُ عَلَى صُورَتِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ هُوَ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ مِنَ الْكَلَامِ يَتْبَعُ الْمَعْنَى فِيهِ اللَّفْظَ الَّذِي يُؤَدِّي السَّجْعَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا اتَّفَقَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَى السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَقَعَ فِيهِ تَابِعًا لِلْمَعْنَى، وَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ فِيهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُنْتَظِمًا دُونَ اللَّفْظِ، وَمَتَى ارْتَبَطَ الْمَعْنَى بِالسَّجْعِ كَانَ إِفَادَةُ السَّجْعِ كَإِفَادَةِ غَيْرِهِ، وَمَتَى انْتَظَمَ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ دُونَ السَّجْعِ كَانَ مُسْتَجْلِبًا لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ دُونَ تَصْحِيحِ الْمَعْنَى. قَالَ: " وَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَقْدِيمِ مُوسَى عَلَى هَارُونَ فِي مَوْضِعٍ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَجْلِ السَّجْعِ، وَتَسَاوِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ فَمَرْدُودٌ، بَلِ الْفَائِدَةُ فِيهِ إِعَادَةُ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا، وَذَلِكَ مِنَ الْأَمْرِ الصَّعْبِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ الْفَصَاحَةُ وَتَقْوَى الْبَلَاغَةُ، وَلِهَذَا أُعِيدَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْقَصَصِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى تَرْتِيبَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ؛ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، مُبْتَدَأً بِهِ وَمُتَكَرِّرًا. وَلَوْ أَمْكَنَهُمُ الْمُعَارَضَةُ لَقَصَدُوا تِلْكَ الْقِصَّةَ وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ لَهُمْ تُؤَدِّي إِلَى تِلْكَ الْمَعَانِي وَنَحْوِهَا. فَعَلَى هَذَا، الْقَصْدُ بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَتَأْخِيرِهَا إِظْهَارُ الْإِعْجَازِ دُونَ السَّجْعِ " إِلَى أَنْ قَالَ: " فَبَانَ بِمَا قُلْنَا أَنَّ الْحُرُوفَ الْوَاقِعَةَ فِي الْفَوَاصِلِ، مُنَاسِبَةٌ مَوْقِعَ النَّظَائِرِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْأَسْجَاعِ لَا تُخْرِجُهَا عَنْ حَدِّهَا، وَلَا تُدْخِلُهَا فِي بَابِ السَّجْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يَذُمُّونَ كُلَّ سَجْعٍ خَرَجَ عَنِ اعْتِدَالِ الْأَجْزَاءِ، فَكَانَ بَعْضُ مَصَارِيعِهِ كَلِمَتَيْنِ، وَبَعْضُهَا أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَصَاحَةً، بَلْ يَرَوْنَهُ عَجْزًا، فَلَوْ فَهِمُوا اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى السَّجْعِ لَقَالُوا: نَحْنُ نُعَارِضُهُ بِسَجْعٍ مُعْتَدِلٍ، فَنَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى طَرِيقِ الْقُرْآنِ " انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالرُّمَّانِيُّ. رَدَّ عَلَيْهِمَا الْخَفَاجِيُّ فِي كِتَابِ " سِرِّ الْفَصَاحَةِ " فَقَالَ: " وَأَمَّا قَوْلُ الرُّمَّانِيِّ: إِنَّ السَّجْعَ عَيْبٌ، وَالْفَوَاصِلَ بَلَاغَةٌ فَغَلَطٌ، فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالسَّجْعِ مَا يَتْبَعُ الْمَعْنَى وَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَذَلِكَ بَلَاغَةٌ وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا تَقَعُ الْمَعَانِي تَابِعَةً لَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ مُتَكَلَّفٌ، فَذَلِكَ عَيْبٌ، وَالْفَوَاصِلُ مِثْلُهُ ". قَالَ: وَأَظُنُّ أَنَّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَسْمِيَةِ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ فَوَاصِلَ وَلَمْ يُسَمُّوا مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ سَجْعًا رَغْبَتُهُمْ فِي تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنِ الْوَصْفِ اللَّاحِقِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنِ الْكَهَنَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا غَرَضٌ فِي التَّسْمِيَةِ قَرِيبٌ، وَالْحَقِيقَةُ مَا قُلْنَاهُ. ثُمَّ قَالَ: وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ الْأَسْجَاعَ حُرُوفٌ مُتَمَاثِلَةٌ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّجْعَ مَحْمُودٌ فَهَلَّا وَرَدَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا! وَمَا الْوَجْهُ فِي وُرُودِ بَعْضِهِ مَسْجُوعًا وَبَعْضِهِ غَيْرَ مَسْجُوعٍ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، وَكَانَ الْفَصِيحُ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ كُلُّهُ مَسْجُوعًا لِمَا فِيهِ مِنْ أَمَارَاتِ التَّكَلُّفِ وَالِاسْتِكْرَاهِ وَالتَّصَنُّعِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا يَطُولُ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَرِدْ كُلُّهُ مَسْجُوعًا جَرْيًا مِنْهُ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي الطَّبَقَةِ الْعَالِيَةِ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَمْ يَخْلُ مِنَ السَّجْعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْسُنُ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى الصِّفَةِ السَّابِقَةِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي وُرُودِ بَعْضِهِ كَذَلِكَ وَبَعْضِهِ بِخِلَافِهِ " . وَخُصَّتْ فَوَاصِلُ الشِّعْرِ بِاسْمِ الْقَوَافِي لِأَنَّ الشَّاعِرَ يَقْفُوهَا وَلَا يَتْبَعُهَا فِي الشِّعْرِ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ فَاصِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَفْصِلُ آخِرَ الْكَلَامِ، فَالْقَافِيَةُ أَخَصُّ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ إِذْ كُلُّ قَافِيَةٍ فَاصِلَةٌ وَلَا عَكْسَ. وَيَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْقَافِيَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا سَلَبَ عَنْهُ اسْمَ الشِّعْرِ وَجَبَ سَلْبُ الْقَافِيَةِ أَيْضًا عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَخَاصَّةٌ بِهِ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الْقَافِيَةِ فِي الْقُرْآنِ لَا تَنْطَلِقُ الْفَاصِلَةُ فِي الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَتَعَدَّاهُ. قِيلَ: وَقَدْ يَقَعُ فِي الْقُرْآنِ الْإِيطَاءُ، وَهُوَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ فِيهِ؛ إِنَّمَا يُقَبَّحُ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الْآيَةَ: 101)، ثُمَّ قَالَ فِي آخَرَيْنِ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (102- 103)، ثَلَاثُ فَوَاصِلَ مُتَوَالِيَةٌ: {يَعْلَمُونَ}، {يَعْلَمُونَ}، فَهَذَا لَا يُقَبَّحُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلًا وَاحِدًا. قِيلَ: وَيَقَعُ فِيهِ التَّضْمِينُ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، إِنَّمَا يُقَبَّحُ فِي الشِّعْرِ، وَمِنْهُ سُورَتَانِ: الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ؛ فَإِنَّ اللَّامَ فِي {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قُرَيْشٍ: 1)، قِيلَ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِـ {فَجَعَلَهُمْ} (الْفِيلِ: 5) فِي آخِرِ الْفِيلِ. وَحَكَى حَازِمٌ فِي " مِنْهَاجِ الْبُلَغَاءِ " خِلَافًا غَرِيبًا فَقَالَ: وَلِلنَّاسِ فِي الْكَلَامِ الْمَنْثُورِ مِنْ جِهَةِ تَقْطِيعِهِ إِلَى مَقَادِيرَ بِتَفَاوُتٍ فِي الْكَمِّيَّةِ وَتَتَنَاسَبُ مَقَاطِعُهَا عَلَى ضَرْبٍ مِنْهَا أَوْ بِالنُّقْلَةِ مِنْ ضَرْبٍ وَاقِعٍ فِي ضَرْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إِلَى ضَرْبٍ آخَرَ مُزْدَوِجٍ، فِي كُلِّ ضَرْبٍ ضَرْبٌ مِنْهَا أَوْ يَزِيدُ عَلَى الِازْدِوَاجِ، وَمِنْ جِهَةِ مَا يَكُونُ غَيْرَ مُقَطَّعٍ إِلَى مَقَادِيرَ يَقْصِدُ لِمُنَاسَبَةِ أَطْرَافِهَا، وَتَقَارُبِ مَا بَيْنَهَا فِي كَمِّيَّةِ الْأَلْفَاظِ وَالْحُرُوفِ، ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: مِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ تَقْطِيعَ الْكَلَامِ إِلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُتَقَارِبَةٍ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، إِلَّا مَا يَقَعُ بِهِ الْإِلْمَامُ فِي النَّادِرِ مِنَ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي أَنَّ التَّنَاسُبَ الْوَاقِعَ بِإِفْرَاغِ الْكَلَامِ فِي قَوَالِبِ التَّقْفِيَةِ وَتَحْلِيَتِهَا بِمُنَاسَبَاتِ الْمَقَاطِعِ أَكِيدٌ جِدًّا. وَالثَّالِثُ- وَهُوَ الْوَسَطُ- أَنَّ السَّجْعَ لَمَّا كَانَ زِينَةً لِلْكَلَامِ، فَقَدْ يَدْعُو إِلَى التَّكَلُّفِ، فَرُئِيَ أَلَّا يُسْتَعْمَلَ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ، وَأَنْ لَا يُخْلَى الْكَلَامُ بِالْجُمْلَةِ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُقْبَلُ مِنَ الْخَاطِرِ فِيهِ مَا اجْتَلَبَهُ عَفْوًا، بِخِلَافِ التَّكَلُّفِ، وَهَذَا إِذًا رَأْيُ أَبِي الْفَرَجِ قُدَامَةَ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَكَيْفَ يُعَابُ السَّجْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ! وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَسَالِيبِ الْفَصِيحِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَوَرَدَتِ الْفَوَاصِلُ فِيهِ بِإِزَاءِ وُرُودِ الْأَسْجَاعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِئْ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَلِمَا فِي الطَّبْعِ مِنَ الْمِلَلِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الِافْتِنَانَ فِي ضُرُوبِ الْفَصَاحَةِ أَعْلَى مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَرْبٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا وَرَدَتْ بَعْضُ آيِ الْقُرْآنِ مُتَمَاثِلَةَ الْمَقَاطِعِ، وَبَعْضُهَا غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِيقَاعَ الْمُنَاسَبَةِ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ حَيْثُ تَطَّرِدُ مُتَأَكِّدٌ جِدًّا، وَمُعْتَبَرٌ فِي اعْتِدَالِ نَسَقِ الْكَلَامِ وَحُسْنِ مَوْقِعِهِ مِنَ النَّفْسِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا، وَلِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ لِأَجْلِهَا فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: زِيَادَةُ حَرْفٍ لِأَجْلِهَا، مِنْ إِيقَاعِ الْمُنَاسَبَةِ فِي مُقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ وَلِهَذَا أُلْحِقَتِ الْأَلِفُ بِـ " الظُّنُونِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الْأَحْزَابِ: 10)؛ لِأَنَّ مَقَاطِعَ فَوَاصِلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَلِفَاتٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ تَنْوِينٍ فِي الْوَقْفِ، فَزِيدَ عَلَى النُّونِ الْأَلِفُ لِتُسَاوِيَ الْمَقَاطِعَ، وَتُنَاسِبَ نِهَايَاتِ الْفَوَاصِلِ، وَمِثْلُهُ: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الْأَحْزَابِ: 67)، {وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (الْأَحْزَابِ: 66). وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَمْ تُزَدِ الْأَلِفُ لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ كَمَا قَالَ قَوْمٌ؛ لِأَنَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الْآيَةَ: 4) وَفِيهَا: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (الْأَحْزَابِ: 67)، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا رَأْسُ آيَةٍ، وَثَبَتَتِ الْأَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تِلْكَ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ لَثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا زِيدَتِ الْأَلِفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْقِسْمَيْنِ وَاسْتِوَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ تِلْكَ، وَكَذَلِكَ لِحَاقُ هَاءِ السَّكْتِ فِي قَوْلِهِ: {مَا هِيَهْ} (الْقَارِعَةِ: 10) فِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ، هَذِهِ الْهَاءُ عَدَّلَتْ مَقَاطِعَ الْفَوَاصِلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَانَ لِلَحَاقِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي الْفَصَاحَةِ. وَعَلَى هَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ لِحَاقُ النُّونِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَكَلَّمُ فِي لِحَاقِ النُّونِ إِيَّاهَا، نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (الْبَقَرَةِ: 65)، فَإِنَّ مِنْ مَآخِذِ الْفَصَاحَةِ وَمَذَاهِبِهَا أَنْ يَكُونَ وُرُودُ هَذِهِ النُّونِ فِي مَقَاطِعِ هَذِهِ الْأَنْحَاءِ لِلْآيِ رَاجِحَ الْأَصَالَةِ فِي الْفَصَاحَةِ لِتَكُونَ فَوَاصِلُ السُّوَرِ الْوَارِدِ فِيهَا ذَلِكَ قَدِ اسْتُوثِقَ فِيمَا قَبْلَ حُرُوفِهَا الْمُتَطَرِّفَةِ وُقُوعُ حَرْفَيِ الْمَدِّ وَاللِّينِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطُورِ سِينِينَ} (التِّينِ: 2) وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ؛ لِقَوْلِهِ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 20). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} (يُوسُفَ: 46) كَرَّرَ " لَعَلَّ " مُرَاعَاةً لِفَوَاصِلِ الْآيِ؛ إِذْ لَوْ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ لَقَالَ: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ فَيَعْلَمُوا بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى الْجَوَابِ. (الثَّانِي) حَذْفُ هَمْزَةٍ أَوْ حَرْفٍ اطِّرَادًا مِنْ إِيقَاعِ الْمُنَاسَبَةِ فِي مَقَاطِعِ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (الْفَجْرِ: 4). (الثَّالِثُ) الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَجْرُورَاتِ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ وَبِذَلِكَ يُجَابُ عَنْ سُؤَالٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (الْإِسْرَاءِ: 69)، فَإِنَّهُ قَدْ تَوَالَتِ الْمَجْرُورَاتُ بِالْأَحْرُفِ الثَّلَاثَةِ؛ وَهِيَ اللَّامُ فِي {لَكُمْ} وَالْبَاءُ فِي {بِهِ} وَ " عَلَى " فِي {عَلَيْنَا} وَكَانَ الْأَحْسَنُ الْفَصْلَ. وَجَوَابُهُ أَنَّ تَأَخُّرَ {تَبِيعًا} وَتَرْكَ الْفَصْلِ أَرْجَحُ مِنْ أَنْ يُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ بَعْضِ الرَّوَابِطِ، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (الْإِسْرَاءِ: 69)، فَإِنَّ فَوَاصِلَهَا كُلَّهَا مَنْصُوبَةٌ مُنَوَّنَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَأْخِيرِ قَوْلِهِ: {تَبِيعًا} لِتَكُونَ نِهَايَةُ هَذِهِ الْآيَةِ مُنَاسِبَةً لِنِهَايَاتِ مَا قَبْلَهَا حَتَّى تَتَنَاسَقَ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. (الرَّابِعُ) تَأْخِيرُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُقَدَّمَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (طه: 67) لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنْ يَتَّصِلَ الْفِعْلُ بِفَاعِلِهِ وَيُؤَخَّرَ الْمَفْعُولُ، لَكِنْ أُخِّرَ الْفَاعِلُ وَهُوَ " مُوسَى " لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. قُلْتُ: لِلتَّأْخِيرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ تَتَشَوَّقُ لِفَاعِلِ (أَوْجَسَ) فَإِذَا جَاءَ بَعْدَ أَنْ أُخِّرَ وَقَعَ بِمَوْقِعٍ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (طه: 129) فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} مَعْطُوفٌ عَلَى {كَلِمَةٌ} وَلِهَذَا رُفِعَ. وَالْمَعْنَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} فِي التَّأْخِيرِ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} لَكَانَ الْعَذَابُ لِزَامًا، لَكِنَّهُ قَدَّمَ وَأَخَّرَ لِتَشْتَبِكَ رُءُوسُ الْآيِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَطْفَهُ عَلَى الضَّمِيرِ فِي {لَكَانَ} أَيْ لَكَانَ الْأَجَلُ الْعَاجِلُ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَازِمَيْنِ لَهُ كَمَا كَانَا لَازِمَيْنِ لِعَادٍ وَثَمُودَ وَلَمْ يَنْفَرِدِ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى دُونَ الْأَجَلِ الْعَاجِلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} (الْقَمَرِ: 41) فَأَخَّرَ الْفَاعِلَ لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الْبَقَرَةِ: 3) أَخَّرَ الْفِعْلَ عَنِ الْمَفْعُولِ فِيهَا وَقَدَّمَهُ فِيمَا قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (الْبَقَرَةِ: 3) لِيُوَافِقَ الْآيِ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: قَدَّمَ الْمَفْعُولَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَمِنْهُ تَأْخِيرُ الِاسْتِعَانَةِ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الْفَاتِحَةِ: 5) وَهِيَ قَبْلَ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ لِأَجْلِ فَوَاصِلِ السُّورَةِ فِي أَحَدِ الْأَجْوِبَةِ. (الْخَامِسُ): إِفْرَادُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُجْمَعَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (الْقَمَرِ: 54) قَالَ الْفَرَّاءُ: " الْأَصْلُ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّمَا وَحَّدَ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، فَقَابَلَ بِالتَّوْحِيدِ رُءُوسَ الْآيِ. وَيُقَالُ: النَّهْرُ الضِّيَاءُ وَالسَّعَةُ، فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَابِ ". وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الْكَهْفِ: 51) قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي " الْمُحْكَمِ ": أَيْ أَعْضَادًا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ لِيَعْدِلَ رُءُوسَ الْآيِ بِالْإِفْرَادِ، وَالْعَضُدُ: الْمُعِينُ. (السَّادِسُ): جَمْعُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُفْرَدَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (إِبْرَاهِيمَ: 31) فَإِنَّ الْمُرَادَ " وَلَا خُلَّةٌ " بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى، لَكِنْ جَمَعَهُ لِأَجْلِ مُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ. (السَّابِعُ): تَثْنِيَةُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُفْرَدَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (الرَّحْمَنِ: 46). قَالَ الْفَرَّاءُ أَيْضًا: هَذَا بَابُ مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي تَثْنِيَةِ الْبُقْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَجَمْعِهَا كَقَوْلِهِ: " وَدَارٌ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ " وَقَوْلِهِ: " بَطْنُ الْمَكَّتَيْنِ "، وَأُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى نَوَاحِيهَا، أَوْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ لَهَا وَجْهَيْنِ، وَأَنَّكَ إِذَا أَوْصَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا يَمِينًا وَشِمَالًا رَأَيْتَ فِي كِلْتَا النَّاحِيَتَيْنِ مَا يَمْلَأُ عَيْنَكَ قُرَّةً وَصَدْرَكَ مَسَرَّةً. قَالَ: وَإِنَّمَا ثَنَّاهُمَا لِأَجْلِ الْفَاصِلَةِ رِعَايَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا وَالَّتِي بَعْدَهَا عَلَى هَذَا الْوَزْنِ وَالْقَوَافِي تَحْتَمِلُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ سَائِرُ الْكَلَامِ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَيْهِ وَأَغْلَظَ وَقَالَ: إِنَّمَا يَجُوزُ فِي رُءُوسِ الْآيِ زِيَادَةُ هَاءِ السَّكْتِ أَوِ الْأَلِفِ أَوْ حَذْفُ هَمْزَةٍ أَوْ حَرْفٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَعَدَ جَنَّتَيْنِ فَيَجْعَلَهُمَا جَنَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ رُءُوسِ الْآيِ فَمَعَاذَ اللَّهِ، وَكَيْفَ هَذَا وَهُوَ يَصِفُهَا بِصِفَاتِ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 48) ثُمَّ قَالَ فِيهَا: {فِيهِمَا} (الرَّحْمَنِ: 50)، وَلَوْ أَنَّ قَائِلًا قَالَ فِي خَزَنَةِ النَّارِ إِنَّهُمْ عِشْرُونَ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمُ اللَّهُ تِسْعَةَ عَشَرَ لِرَأْسِ الْآيَةِ، مَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا كَقَوْلِ الْفَرَّاءِ. قُلْتُ: وَكَأَنَّ الْمُلْجِئَ لِلْفَرَّاءِ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النَّازِعَاتِ: 40- 41) وَعَكْسُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه: 117) عَلَى أَنَّ هَذَا قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ، خُصُوصًا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْفَرَّاءِ قَوْلُهُ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 48). (الثَّامِنُ): تَأْنِيثُ مَا أَصْلُهُ أَنْ يُذْكَرَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} (الْمُدَّثِّرِ: 54) أَيْ تَذْكِيرٌ، وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَيْهَا لِلْفَاصِلَةِ. (التَّاسِعُ): كَقَوْلِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ} (الْأَعْلَى: 1- 2) قَالَ فِي الْعَلَقِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (الْآيَةَ: 1) فَزَادَ فِي السُّورَةِ الْأُولَى: {الْأَعْلَى} وَزَادَ فِي الثَّانِيَةِ: {خَلَقَ} مُرَاعَاةً لِلْفَوَاصِلِ فِي السُّورَتَيْنِ وَهِيَ فِي " سَبِّحْ ": {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} (2) وَفِي " الْعَلَقِ ": {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2). (الْعَاشِرُ) صَرْفُ مَا أَصْلُهُ أَلَّا يَنْصَرِفَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَوَارِيرًا قَوَارِيرَا) (الْإِنْسَانِ: 15- 16) صَرَفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ آخِرُ الْآيَةِ، وَآخِرُ الثَّانِي بِالْأَلِفِ فَحَسُنَ جَعْلُهُ مَنَوَّنًا لِيُقْلَبَ تَنْوِينُهُ أَلِفًا، فَيَتَنَاسَبُ مَعَ بَقِيَّةِ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا} (الْإِنْسَانِ: 4) فَإِنَّ {سَلَاسِلَا} لَمَّا نُظِمَ إِلَى {أَغْلَالًا وَسَعِيرًا} صُرِفَ وَنُوِّنَ لِلتَّنَاسُبِ وَبَقِيَ (قَوَارِيرَ) الثَّانِي؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ آخِرَ الْآيَةِ جَازَ صَرْفُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَّنَ ((قَوَارِيرًا)) الْأَوَّلَ نَاسَبَ أَنْ يُنَوَّنَ ((قَوَارِيرًا)) الثَّانِي لِيَتَنَاسَبَا، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُنَوِّنْ ((قَوَارِيرًا)) الثَّانِيَ إِلَّا مَنْ يُنَوِّنُ ((قَوَارِيرًا)) الْأَوَّلَ. وَزَعَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " أَنَّ مِنْ ذَلِكَ صَرْفَ مَا كَانَ جَمْعًا فِي الْقُرْآنِ لِيُنَاسِبَ رُءُوسَ الْآيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا). وَهَذَا مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ ((سَلَاسِلًا)) لَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ وَلَا ((قَوَارِيرًا)) الثَّانِي، وَإِنَّمَا صُرِفَ لِلتَّنَاسُبِ وَاجْتِمَاعِهِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُنْصَرِفَاتِ، فَيُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ لِيَتَنَاسَبَ مَعَهَا. وَنَظِيرُهُ فِي مُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْأَفْصَحَ أَنْ يُقَالَ " بَدَأَ " ثُلَاثِيٌّ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الْأَعْرَافِ: 1- 2) وَقَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 20) ثُمَّ قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (الْعَنْكَبُوتِ: 19) فَجَاءَ بِهِ رُبَاعِيًّا فَصِيحًا لِمَا حَسَّنَهُ مِنَ التَّنَاسُبِ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُعِيدُهُ}. (الْحَادِيَ عَشَرَ) إِمَالَةُ مَا أَصْلُهُ أَلَّا يُمَالَ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَإِمَالَةِ أَلِفِ {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (الضُّحَى: 1- 2) لِيُشَاكِلَ التَّلَفُّظُ بِهِمَا التَّلَفُّظَ بِمَا بَعْدَهُمَا. وَالْإِمَالَةُ أَنْ تَنْحُوَ بِالْأَلِفِ نَحْوَ الْيَاءِ، وَالْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ مِنْهَا هُوَ التَّنَاسُبُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: الْإِمَالَةُ لِلْإِمَالَةِ، وَقَدْ يُمَالُ لِكَوْنِهَا آخِرَ مُجَاوِرِ مَا أُمِيلَ آخِرُهُ، كَأَلِفِ تَلَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (الشَّمْسِ: 2) فَأُمِيلَتْ أَلِفُ تَلَاهَا لِيُشَاكِلَ اللَّفْظُ بِهَا اللَّفْظَ الَّذِي بَعْدَهَا مِمَّا أَلِفُهُ غَيْرُ يَاءٍ نَحْوِ: {جَلَّاهَا} (الشَّمْسِ: 2) وَ (غَشَّاهَا) (النَّجْمِ: 54). فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا جَعَلْتَ إِمَالَةَ {تَلَاهَا} لِمُنَاسَبَةِ مَا قَبْلَهَا؛ أَعْنِي {ضُحَاهَا} (النَّازِعَاتِ: 29) قِيلَ: لِأَنَّ أَلِفَ {ضُحَاهَا} عَنْ وَاوٍ، وَإِنَّمَا أُمِيلَ لِمُنَاسَبَةِ مَا بَعْدَهَا. (الثَّانِيَ عَشَرَ): الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ الْمُضِيِّ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفَوَاصِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 87) حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَفَرِيقًا قَتَلْتُمْ، كَمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فَقَالَ: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} (الْآيَةَ: 26) وَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهَا هُنَا رَأْسُ آيَةٍ.
ثُمَّ هُنَا تَفْرِيعَاتٌ: (الْأَوَّلُ): قَدْ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ خَتْمُ كَلِمَةِ الْمَقْطَعِ مِنَ الْفَاصِلَةِ بِحُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَإِلْحَاقِ النُّونِ، وَحِكْمَتُهُ وُجُودُ التَّمَكُّنِ مِنَ التَّطْرِيبِ بِذَلِكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: " أَمَّا إِذَا تَرَنَّمُوا فَإِنَّهُمْ يُلْحِقُونَ الْأَلِفَ وَالْوَاوَ وَالْيَاءَ مَا يُنَوَّنُ وَمَا لَا يُنَوَّنُ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَدَّ الصَّوْتِ، وَإِذَا أَنْشَدُوا وَلَمْ يَتَرَنَّمُوا فَأَهْلُ الْحِجَازِ يَدَعُونَ الْقَوَافِيَ عَلَى حَالِهَا فِي التَّرَنُّمِ، وَنَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُبَدِّلُونَ مَكَانَ الْمَدَّةِ النُّونَ ". انْتَهَى. وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى أَعْذَبِ مَقْطَعٍ وَأَسْهَلِ مَوْقِفٍ.
إِنَّ مَبْنَى الْفَوَاصِلِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْوَقْفِ، وَلِهَذَا شَاعَ مُقَابَلَةُ الْمَرْفُوعِ بِالْمَجْرُورِ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَا الْمَفْتُوحُ وَالْمَنْصُوبُ غَيْرُ الْمَنَوَّنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} (الصَّافَّاتِ: 11) مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {عَذَابٌ وَاصِبٌ} (الْآيَةَ: 9)، وَ {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الْآيَةَ: 10)، وَكَذَا {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} (الْقَمَرِ: 11) وَ {قَدْ قُدِرَ} (الْآيَةَ: 12)، وَكَذَا {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرَّعْدِ: 11) مَعَ {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} (الْآيَةَ: 12). وَعِبَارَةُ السَّكَّاكِيِّ قَدْ تُعْطِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ شُرُوطُهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ فِي الْإِعْرَابِ لِمَا قَبْلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ. وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الْخَشَّابِ مُعْتَرِضًا عَلَى قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ التَّاسِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: يَا صَارِفًا عَنِّي الْمَـ *** وَدَّةَ وَالزَّمَانُ لَهُ صُرُوفْ وَمُعَنِّفِي فِي فَضْحِ مَنْ *** جَاوَزْتُ تَعْنِيفَ الْعَسُوفْ لَا تَلْحَنِي فِيمَا أَتَيْـ *** ـتُ فَإِنَّنِي بِهِمُ عَرُوفْ وَلَقَدْ نَزَلْتُ بِهِمْ فَلَمْ *** أَرَهُمْ يُرَاعُونَ الضُّيُوفْ وَبَلَوْتُهُمْ فَوَجَدْتُهُمْ لَمَّا سَبَكْتُهُمُ زُيُوفْ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا أَطْلَقْتَ ظَهَرَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ مَرْفُوعَيْنِ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مَنْصُوبَيْنِ وَالثَّانِي مَجْرُورًا، وَكَذَا بَاقِي الْقَصِيدَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا سَبَقَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلِمَةَ الْأَسْجَاعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ سَاكِنَةَ الْأَعْجَازِ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْقَرَائِنِ وَالْمُزَاوَجَةُ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْوَقْفِ، وَلَوْ وُصِلَتْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِجْرَاءِ كُلِّ الْقَرَائِنِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الْإِعْرَابِ، فَعَطَّلْتَ عَمَلَ السَّاجِعِ وَفَوَّتَّ غَرَضَهُمْ. وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ يُخْرِجُونَ الْكَلِمَ عَنْ أَوْضَاعِهَا لِغَرَضِ الِازْدِوَاجِ فَيَقُولُونَ: " آتِيكَ بِالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا " مَعَ أَنَّ فِيهِ ارْتِكَابًا لِمَا يُخَالِفُ اللُّغَةَ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ.
ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا تَحْسُنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَوَاصِلِ فِي الْقُرْآنِ لِمُجَرَّدِهَا إِلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَعَانِي عَلَى سَدَادِهَا، عَلَى النَّهْجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حُسْنُ النَّظْمِ وَالْتِئَامِهِ، كَمَا لَا يَحْسُنُ تَخَيُّرُ الْأَلْفَاظِ الْمُونِقَةِ فِي السَّمْعِ، السَّلِسَةِ عَلَى اللِّسَانِ، إِلَّا مَعَ مَجِيئِهَا مُنْقَادَةً لِلْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ الْمُنْتَظِمَةِ، فَأَمَّا أَنْ تُهْمَلَ الْمَعَانِي وَتُسَيَّبَ وَيُجْعَلَ تَحْسِينُ اللَّفْظِ وَحْدَهُ غَيْرَ مَنْظُورٍ فِيهِ إِلَى مُؤَدَّاهُ عَلَى بَالٍ، فَلَيْسَ مِنَ الْبَلَاغَةِ فِي فَتِيلٍ أَوْ نَقِيرٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (الْبَقَرَةِ: 4) وَقَوْلُهُ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَرْكُ رِعَايَةِ التَّنَاسُبِ فِي الْعَطْفِ بَيْنَ الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ إِيثَارًا لِلْفَاصِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَفْظِيٌّ، لَا طَائِلَ تَحْتَهُ؛ وَإِنَّمَا عُدِلَ إِلَى هَذَا لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ.
أَنَّ الْفَوَاصِلَ تَنْقَسِمُ إِلَى: مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَقَاطِعِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي السَّجْعِ، وَإِلَى مَا تَقَارَبَتْ حُرُوفُهُ فِي الْمَقَاطِعِ وَلَمْ تَتَمَاثَلْ، وَهَذَا لَا يَكُونُ سَجْعًا، وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، أَعْنِي الْمُتَمَاثِلَ وَالْمُتَقَارِبَ ، مِنْ فَوَاصِلِ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَأْتِي طَوْعًا سَهْلًا تَابِعًا لِلْمَعَانِي أَوْ مُتَكَلَّفًا يَتْبَعُهُ الْمَعْنَى. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَحْمُودُ الدَّالُّ عَلَى الثَّقَافَةِ وَحُسْنِ الْبَيَانِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَذْمُومُ، فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِعُلُوِّهِ فِي الْفَصَاحَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فَوَاصِلُهُ مُتَمَاثِلَةً وَمُتَقَارِبَةً. مِثَالُ الْمُتَمَاثِلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} (الطُّورِ: 1- 5). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 1- 5). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (الْعَادِيَاتِ: 5). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (الْفَجْرِ: 1- 4) إِلَى آخِرِهِ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ مَنْ " يَسْرِ " طَلَبًا لِلْمُوَافَقَةِ فِي الْفَوَاصِلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (الْقَمَرِ: 1) وَجَمِيعُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الِازْدِوَاجِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (التَّكْوِيرِ: 15- 18). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} (الِانْشِقَاقِ: 16- 19). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضُّحَى: 9- 10). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الْإِسْرَاءِ: 16). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (ن: 2- 3). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 201- 202). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} الْآيَةَ (الْقِيَامَةِ: 26- 27). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} (الْأَعْرَافِ: 88). وَمِثَالُ الْمُتَقَارِبِ فِي الْحُرُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الْفَاتِحَةِ: 3- 4). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (ق: 1- 2). وَهَذَا لَا يُسَمَّى سَجْعًا قَطْعًا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِإِطْلَاقِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ مَا تَمَاثَلَتْ حُرُوفُهُ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فَوَاصِلَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، بَلْ تَنْحَصِرُ فِي الْمُتَمَاثِلَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدِّ الْفَاتِحَةِ سَبْعِ آيَاتٍ مَعَ الْبَسْمَلَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ الْمُثْبِتَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَاحِدَةٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا أَسْقَطَ الْبَسْمَلَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ قَالَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آيَةٌ وَ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} آيَةٌ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فَاصِلَةَ قَوْلِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَا تُشَابِهَ فَاصِلَةَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَرِعَايَةُ التَّشَابُهِ فِي الْفَوَاصِلِ مِنَ الْقُرْآنِ لَازِمٌ، وَقَوْلُهُ: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لَيْسَ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، فَامْتَنَعَ جَعْلُهُ مِنَ الْمَقَاطِعِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَدَدِ.
قَسَّمَ الْبَدِيعِيُّونَ السَّجْعَ أَوِ الْفَوَاصِلَ أَيْضًا إِلَى مُتَوَازٍ وَمُطَرَّفٍ وَمُتَوَازِنٍ. وَأَشْرَفُهَا الْمُتَوَازِي، فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ تَتَّفِقَ الْكَلِمَتَانِ فِي الْوَزْنِ وَحُرُوفِ السَّجْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الْغَاشِيَةِ: 13- 14) وَقَوْلِهِ: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (آلِ عِمْرَانَ: 48- 49). وَالْمُطَرَّفُ أَنْ يَتَّفِقَا فِي حُرُوفِ السَّجْعِ لَا فِي الْوَزْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نُوحٍ: 13- 14). وَالْمُتَوَازِنُ أَنْ يُرَاعَى فِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ الْوَزْنُ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (الْغَاشِيَةِ: 15- 16). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الصَّافَّاتِ: 117- 118)، فَلَفْظُ (الْكِتَابَ) وَ (الصِّرَاطَ) مُتَوَازِنَانِ، وَلَفْظُ (الْمُسْتَبِينَ) وَ (الْمُسْتَقِيمَ) مُتَوَازِنَانِ. وَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} (الْمَعَارِجِ: 5- 9). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} (الْمَعَارِجِ: 15- 18). وَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (اللَّيْلِ: 1- 2) إِلَى آخِرِهَا. وَقَوْلِهِ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضُّحَى: 1- 3) إِلَى آخِرِهَا، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي سُورَةِ " حم عسق " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} (الشُّورَى: 16) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ السَّبْعِ، فَجَمَعَ فِي فَوَاصِلِهَا بَيْنَ (شَدِيدٌ) وَ (قَرِيبٌ) وَ (بِعِيدٍ) وَ (الْعَزِيزُ) وَ (نَصِيبٍ) وَ (أَلِيمٌ) وَ (الْكَبِيرُ) عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَفِي الْمُفَصَّلِ خَاصَّةً فِي قِصَارِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ بَدَلَهُ التَّرْصِيعَ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْفِقْرَتَيْنِ مُؤَلَّفًا مِنْ كَلِمَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالثَّانِي مُؤَلَّفًا مِنْ مِثْلِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْوَزْنُ وَالتَّقْفِيَةُ وَتَقَابُ الْقَرَائِنِ، قِيلَ: وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْقِسْمُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ. وَزَعَمَ بَعْضِهِمْ أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الِانْفِطَارِ: 13- 14) وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِوُرُودِ لَفْظَةِ (إِنَّ) وَ (لَفِي) كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّطْرَيْنِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِشَرْطِ التَّرْصِيعِ؛ إِذْ شَرَطُهُ اخْتِلَافُ الْكَلِمَاتِ فِي الشَّطْرَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ: " سُورَةُ الْوَاقِعَةِ مِنْ نَوْعِ التَّرْصِيعِ وَتَتَبُّعُ أَجْزَائِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا مُوَازَنَةً. قَالُوا: وَأَحْسَنُ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ مَا تَسَاوَتْ قَرَائِنُهُ لِيَكُونَ شَبِيهًا بِالشِّعْرِ، فَإِنَّ أَبْيَاتَهُ مُتَسَاوِيَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الْوَاقِعَةِ: 28- 30)، وَعِلَّتُهُ أَنَّ السَّمْعَ أَلِفَ الِانْتِهَاءَ إِلَى غَايَةٍ فِي الْخِفَّةِ بِالْأُولَى، فَإِذَا زِيدَ عَنْهَا ثَقُلَ عَنْهُ الزَّائِدُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ وُصُولِهَا إِلَى مِقْدَارِ الْأَوَّلِ كَمَنْ تَوَقَّعَ الظَّفَرَ بِمَقْصُودِهِ. ثُمَّ طَالَتْ قَرِينَتُهُ الثَّانِيَةُ كَقَوْلِهِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النَّجْمِ: 1- 2) أَوِ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (الْحَاقَّةِ: 30- 30) وَهُوَ إِمَّا قَصِيرٌ كَقَوْلِهِ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} (الْمُرْسَلَاتِ: 1- 2). أَوْ طَوِيلٌ كَقَوْلِهِ: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (الْأَنْفَالِ: 43- 44). أَوْ مُتَوَسِّطٌ كَقَوْلِهِ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (الْقَمَرِ: 1- 2).
اعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا إِيقَاعُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْقُرْآنِ مَقَاطِعُ الْكَلَامِ وَأَوَاخِرُهُ وَإِيقَاعُ الشَّيْءِ فِيهَا بِمَا يُشَاكِلُهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُنَاسِبَةً لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَإِلَّا خَرَجَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَنْ بَعْضٍ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَخْرَجُ بِالتَّأَمُّلِ لِلَّبِيبِ. وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْكِينِ وَالتَّوْشِيحِ وَالْإِيغَالِ وَالتَّصْدِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّهُ أَنْ كَانَ تَقَدَّمَ لَفْظُهَا بِعَيْنِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ سُمِّيَ تَصْدِيرًا، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّدْرِ سُمِّي تَوْشِيحًا، وَإِنْ أَفَادَتْ مَعْنًى زَائِدًا بَعْدَ تَمَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ سُمِّيَ إِيغَالًا، وَرُبَّمَا اخْتَلَطَ التَّوْشِيحُ بِالتَّصْدِيرِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدْرُهُ يَدُلُّ عَلَى عَجُزِهِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ التَّصْدِيرِ لَفْظِيَّةٌ وَدَلَالَةَ التَّوْشِيحِ مَعْنَوِيَّةٌ.
وَهُوَ أَنْ تُمَهِّدَ قَبْلَهَا تَمْهِيدًا تَأْتِي بِهِ الْفَاصِلَةُ مُمْكِنَةً فِي مَكَانِهَا، مُسْتَقِرَّةً فِي قَرَارِهَا، مُطْمَئِنَّةً فِي مَوْضِعِهَا، غَيْرَ نَافِذَةٍ وَلَا قَلِقَةٍ، مُتَعَلِّقًا مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ كُلِّهِ تَعَلُّقًا تَامًّا بِحَيْثُ لَوْ طُرِحَتِ اخْتَلَّ الْمَعْنَى وَاضْطَرَبَ الْفَهْمُ. وَهَذَا الْبَابُ يُطْلِعُكَ عَلَى سِرٍّ عَظِيمٍ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ، فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (الْأَحْزَابِ: 25) فَإِنَّ الْكَلَامَ لَوِ اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} لَأَوْهَمَ ذَلِكَ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ مُوَافَقَةَ الْكُفَّارِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الرِّيحَ الَّتِي حَدَثَتْ كَانَتْ سَبَبَ رُجُوعِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مَا أَرَادُوا، وَأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ لِيُعْلِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَزِيدَهُمْ يَقِينًا وَإِيمَانًا عَلَى أَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُمْتَنِعُ، وَأَنَّ حِزْبَهُ كَذَلِكَ، وَأَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ الَّتِي هَبَّتْ لَيْسَتِ اتِّفَاقًا، بَلْ هِيَ مِنْ إِرْسَالِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ كَعَادَتِهِ، وَأَنَّهُ يُنَوِّعُ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَزِيدَهُمْ إِيمَانًا وَيَنْصُرَهُمْ مَرَّةً بِالْقِتَالِ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَتَارَةً بِالرِّيحِ كَيَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَتَارَةً بِالرُّعْبِ كَبَنِي النَّضِيرِ، وَطَوْرًا يَنْصُرُ عَلَيْهِمْ كَيَوْمِ أُحُدٍ تَعْرِيفًا لَهُمْ أَنَّ الْكَثْرَةَ لَا تُغْنِي شَيْئًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِهِ كَيَوْمِ حُنَيْنٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (السَّجْدَةِ: 26- 27) فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الَّتِي الْمَوْعِظَةُ فِيهَا سَمْعِيَّةٌ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ: أَوَلَمْ يَرَوْا، وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَوْعِظَةِ: {أَفَلَا يَسْمَعُونَ}؛ وَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْكِتَابِ وَهُوَ مَسْمُوعٌ، أَوْ أَخْبَارُ الْقُرُونِ وَهُوَ مِمَّا يُسْمَعُ، وَكَيْفَ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي مَوْعِظَتِهَا مَرْئِيَّةٌ: أَوْلَمَ يَرَوْا، وَقَالَ بَعْدَهَا: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ}؛ لِأَنَّ سَوْقَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ مَرْئِيٌّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هُودٍ: 87)، فَإِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعِبَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ كَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا تَامًّا لِذِكْرِ الْحُلُمِ وَالرُّشْدِ؛ لِأَنَّ الْحُلُمَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ وَالرُّشْدُ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ فَكَانَ آخِرُ الْآيَةِ مُنَاسِبًا لِأَوَّلِهَا مُنَاسَبَةً مَعْنَوِيَّةً، وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمْ مُلَاءَمَةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الْأَنْعَامِ: 103)، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَدَّمَ نَفْيَ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ لَهُ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} خِطَابًا لِلسَّامِعِ بِمَا يَفْهَمُ؛ إِذِ الْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ لَطِيفٍ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَاسَّةَ الْبَصَرِ إِنَّمَا تُدْرِكُ اللَّوْنَ مِنْ كُلِّ مُتَلَوِّنٍ وَالْكَوْنَ مِنْ كُلِّ مُتَكَوِّنٍ، فَإِدْرَاكُهَا إِنَّمَا هُوَ لِلْمُرَكَّبَاتِ دُونَ الْمُفْرَدَاتِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ الْخَبِيرُ مُخَصِّصًا لِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ شَيْئًا كَانَ خَبِيرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ لِلشَّيْءِ قَدْ يُدْرِكُهُ لِيَخْبُرَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يُدْرِكُ كُلَّ شَيْءٍ مَعَ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْإِبْصَارَ بِإِدْرَاكِهِ لِيَزِيدَ فِي الْكَلَامِ ضَرْبًا مِنَ الْمَحَاسِنِ يُسَمَّى التَّعَطُّفَ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ: لَا تُبْصِرُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُبْصِرُ الْأَبْصَارَ لَمْ تَكُنْ لَفَظَتَا: {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} مُنَاسِبَتَيْنِ لِمَا قَبْلَهُمَا. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الْحَجِّ: 36- 65) إِنَّمَا فَصَّلَ الْأُولَى بِـ {لَطِيفٌ خَبِيرٌ}؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الرَّحْمَةِ لِخَلْقِهِ بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ خَبِيرٌ بِنَفْعِهِمْ، وَإِنَّمَا فَصَّلَ الثَّانِيَةَ بِـ {غَنِيٌّ حَمِيدٌ} لِأَنَّهُ قَالَ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا لِحَاجَةٍ، بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمَا جَوَادٌ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَنِيٌّ نَافِعًا غِنَاهُ إِلَّا إِذَا جَادَ بِهِ، وَإِذَا جَادَ وَأَنْعَمَ حَمِدَهُ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْحَمْدَ، فَذَكَرَ (الْحَمِيدُ) عَلَى أَنَّهُ الْغَنِيُّ النَّافِعُ بِغِنَاه خَلْقَهُ؛ وَإِنَّمَا فَصَّلَ الثَّالِثَةَ بِـ {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَّدَ لِلنَّاسِ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْخِيرِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُمْ وَإِجْرَاءِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ لَهُمْ وَتَسْيِيرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْهَوْلِ الْعَظِيمِ، وَجَعْلِهِ السَّمَاءَ فَوْقَهُمْ، وَإِمْسَاكِهِ إِيَّاهَا عَنِ الْوُقُوعِ حَسُنَ خِتَامُهُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَوَاصِلَ مَعَ اخْتِلَافِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} [97] الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (الْحَجِّ: 64) فَقَالَ: {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} لِيُنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُ لَيْسَ لِحَاجَةٍ بَلْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ، جَوَادٌ بِهِ، وَإِذَا جَادَ بِهِ حَمِدَهُ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِ؛ إِذْ (حُمَيْدٌ) كَثِيرُ الْمَحَامِيدِ الْمُوجِبَةِ تَنْزِيهَهُ عَنِ الْحَاجَةِ وَالْبُخْلِ وَسَائِرِ النَّقَائِضِ، فَيَكُونُ " غَنِيًّا " مُفَسَّرًا بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ لِتَقْدِيرِ " غَنِيٌّ عَنْهُ ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} (الْقَصَصِ: 71) لَمَّا كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْجَاعِلُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ جَعْلَ اللَّيْلِ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ سَرْمَدٌ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَظَرْفُ اللَّيْلِ ظَرْفٌ مُظْلِمٌ لَا يَنْفُذُ فِيهِ الْبَصَرُ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَضَافَ الْإِتْيَانَ بِالضِّيَاءِ الَّذِي تَنْفُذُ فِيهِ الْأَبْصَارُ إِلَى غَيْرِهِ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَصَارَ النَّهَارُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ؛ إِذْ نُسِبَ وُجُودُهُ إِلَى غَيْرِ مُوجِدٍ، وَاللَّيْلُ كَأَنَّهُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ؛ إِذْ جَعَلَ كَوْنَهُ سَرْمَدًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَقُولَ: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاعِ وَالظَّرْفِ اللَّيْلِيِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلِاسْتِمَاعِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِبْصَارِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الْقَصَصِ: 72)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ جَعْلَ النَّهَارِ سَرْمَدًا إِلَيْهِ صَارَ النَّهَارُ كَأَنَّهُ سَرْمَدٌ، وَهُوَ ظَرْفٌ مُضِيءٌ تُنَوِّرُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَأَضَافَ الْإِتْيَانُ بِاللَّيْلِ إِلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَصَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ إِذْ نُسِبَ وُجُودُهُ إِلَى غَيْرِ مُوجِدٍ، وَالنَّهَارُ كَأَنَّهُ لَا مَوْجُودَ سِوَاهُ؛ إِذْ جَعَلَ وَجُودَهُ سَرْمَدًا مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَقُولَ: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}؛ إِذِ الظَّرْفُ مُضِيءٌ صَالِحٌ لِلْإِبْصَارِ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الْجَاثِيَةِ: 3- 5). فَإِنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةُ الْآيَةِ الْأَوْلَى لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْعَالَمَ بِجُمْلَتِهِ حَيْثُ قَالَ: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وَمَعْرِفَةُ الصَّانِعِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَرِعَ لَهُ قَادِرٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ مُخْتَارٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى صِفَاتِهِ مُرَتَّبَةً عَلَى دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِهِ، فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنَ التَّصْدِيقِ بِذَاتِهِ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ دَالَّةً عَلَى صِفَاتِهِ لِتَقَدُّمِ الْمَوْصُوفِ وُجُودًا وَاعْتِقَادًا عَلَى الصِّفَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فَإِنَّ سِرَّ الْإِنْسَانِ وَتَدَبُّرَ خَلْقِهِ الْحَيَوَانِيِّ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَتَفَكُّرُهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ يَقِينًا فِي مُعْتَقَدِهِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ جُزْئِيَّاتِ الْعَالَمِ؛ فِي الْقُرْآنِ مِنِ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَإِنْزَالِ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ يَقْتَضِي رَجَاحَةَ الْعَقْلِ وَرَصَانَتِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ مَنْ صَنَعَ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ هُوَ الَّذِي صَنَعَ الْعَالَمَ الْكُلِّيَّ الَّتِي هِيَ أَجْرَامُهُ وَعَوَارِضُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا صَنَعَ بَعْضًا، فَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ لِلْعَالَمِ الْكُلِّيِّ صَانِعًا مُخْتَارًا، فَلِذَلِكَ اقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وَإِنِ احْتِيجَ إِلَى الْعَقْلِ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا أَنْسَبُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ إِذْ بَعْضُ مَنْ يَعْتَقِدُ صَانِعَ الْعَالِمِ رُبَّمَا قَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْآثَارِ يَصْنَعُ بَعْضًا، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنَ التَّدَبُّرِ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ وَرَاجِحِ الْعَقْلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لُقْمَانَ: 16). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 76) وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ قَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ دَلَّ عَدُوَّهُ عَلَى عَوْرَةِ نَفْسِهِ أَوْ أَعْطَاهُ سِلَاحَهُ لِيَقْتُلَهُ بِهِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ مَقْلُوبَ الْعَقْلِ، فَلِهَذَا خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، [وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ قَوِيَّةٌ]. وَهَذِهِ الْفَاصِلَةُ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي سِيَاقِ إِنْكَارِ فِعْلٍ غَيْرِ مُنَاسِبٍ فِي الْعَقْلِ، نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 44)؛ لِأَنَّ فَاعِلَ غَيْرِ الْمُنَاسِبِ لَيْسَ بِعَاقِلٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (سَبَأٍ: 26) خَتَمَ بِصِفَةِ الْعِلْمِ إِشَارَةً إِلَى الْإِحَاطَةِ بِأَحْوَالِنَا وَأَحْوَالِكُمْ، وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَنَسْأَلُهُ الْقَضَاءَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا وَمِنْكُمْ.
فَصْلٌ: [اجْتِمَاعِ فَوَاصِلَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَيُخَالِفُ بَيْنَهَا] وَقَدْ تَجْتَمِعُ فَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَيُخَالِفُ بَيْنَهَا فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا فِي أَوَائِلِ النَّحْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَدَأَ فِيهَا بِذِكْرِ الْأَفْلَاكِ فَقَالَ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} (النَّحْلِ: 3)، ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ} (النَّحْلِ: 4)، وَأَشَارَ إِلَى عَجَائِبِ الْحَيَوَانِ فَقَالَ: وَالْأَنْعَامَ (النَّحْلِ: 5) ثُمَّ عَجَائِبِ النَّبَاتِ فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النَّحْلِ: 10- 11)، فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ التَّفَكُّرَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِحُدُوثِ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ النَّبَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ. وَفِيهِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ؛ وَهُوَ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ طَبَائِعَ الْفُصُولِ وَحَرَكَاتِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؟ وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَا جَرَمَ كَانَ مَجَالُ التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ بَاقِيًا، إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَغَيُّرَاتِ الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ مَرْبُوطَةٌ بِأَحْوَالِ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، فَتِلْكَ الْحَرَكَاتُ حَيْثُ حَصَلَتْ، فَإِنْ كَانَ حُصُولُهَا بِسَبَبِ أَفْلَاكٍ أُخْرَى لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ فَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الْإِلَهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النَّحْلِ: 12) فَجَعَلَ مَقْطَعَ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَقْلَ، وَالتَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا فَاعْلَمْ أَنَّ التَّسَلْسُلَ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ انْتِهَاءُ الْحَرَكَاتِ إِلَى حَرَكَةٍ يَكُونُ مُوجِدُهَا غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ، وَهُوَ الْإِلَهُ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ. وَالثَّانِي: أَنَّ نِسْبَةَ الْكَوَاكِبِ وَالطَّبَائِعِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى الْوَرَقَةَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الْوَرْدِ أَحَدَ وَجْهَيْهَا فِي غَايَةِ الْحُمْرَةِ، وَالْآخَرُ فِي غَايَةِ السَّوَادِ، فَلَوْ كَانَ الْمُؤَثِّرُ مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْآثَارِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ قَادِرٌ مُخْتَارٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (النَّحْلِ: 13) كَأَنَّهُ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَرْسَخُ فِي عَقْلِكَ أَنَّ الْمُوجَبَ بِالذَّاتِ وَالطَّبْعِ لَا يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى حُصُولِ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَيْسَ هُوَ الطَّبَائِعَ بَلِ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ فَلِهَذَا جَعَلَ مَقْطَعَ الْآيَةِ التَّذَكُّرَ.
تَنْبِيهٌ: [اخْتِلَافُ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْمُحَدِّثُ عَنْهُ وَاحِدٌ] مِنْ بَدِيعِ هَذَا النَّوْعِ اخْتِلَافُ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْمُحَدِّثُ عَنْهُ وَاحِدٌ فِي الْقُرْآنِ لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (الْآيَةُ: 34) ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (18). قَالَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ فِي " تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ ": كَأَنَّهُ يَقُولُ إِذَا حَصَلَتِ النِّعَمُ الْكَثِيرَةُ فَأَنْتَ آخِذُهَا وَأَنَا مُعْطِيهَا، فَحَصَلَ لَكَ عِنْدَ أَخْذِهَا وَصْفَانِ: كَوْنُكَ ظَلُومًا، وَكَوْنُكَ كَفَّارًا، وَلِي عِنْدَ إِعْطَائِهَا وَصْفَانِ، وَهَمًّا: أَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، أُقَابِلُ ظُلْمَكَ بِغُفْرَانِي، وَكُفْرَكَ بِرَحْمَتِي، فَلَا أُقَابِلُ تَقْصِيرَكَ إِلَّا بِالتَّوْفِيرِ، وَلَا أُجَازِي جَفَاءَكَ إِلَّا بِالْوَفَاءِ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ، لَكِنْ بَقِيَ سُؤَالٌ آخَرُ؛ وَهُوَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ آيَةِ النَّحْلِ بِوَصْفِ النَّعِيمِ، وَآيَةِ إِبْرَاهِيمَ بِوَصْفِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي وَصْفِ الْإِنْسَانِ وَمَا جُبِلَ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ ذِكْرُ ذَلِكَ عُقَيْبَ أَوْصَافِهِ. وَأَمَّا آيَةُ النَّحْلِ فَسِيقَتْ فِي وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتِ أُلُوهِيَّتِهِ وَتَحْقِيقِ صِفَاتِهِ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ، فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّرَاكِيبَ مَا أَرْقَاهَا فِي دَرَجَةِ الْبَلَاغَةِ! وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [15] وَفِي فُصِّلَتْ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [46]. وَحِكْمَةُ فَاصِلَةِ الْأُولَى أَنَّ قَبْلَهَا: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الْجَاثِيَةِ: 14) فَنَاسَبَ الْخِتَامُ بِفَاصِلَةِ الْبَعْثِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ وَصَفَهُمْ بِإِنْكَارِهِ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَالْخِتَامُ بِهَا مُنَاسِبٌ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يُضَيِّعُ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ شَيْئًا. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (الْآيَةَ: 48) خَتَمَ الْآيَةَ مَرَّةً بِقَوْلِهِ: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (الْآيَةَ: 48)، وَمَرَّةً بِقَوْلِهِ: {ضَلَالًا بَعِيدًا} (الْآيَةَ: 116) لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَزَلَ فِي الْيَهُودِ، وَهُمُ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِهِ، وَالثَّانِي نَزَلَ فِي الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَانَ ضَلَالُهُمْ أَشَدَّ. وَقَوْلُهُ فِي الْمَائِدَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (الْآيَاتُ: 44- 46)، فَذَكَرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَتَمَ الْأُولَى بِالْكَافِرِينَ، وَالثَّانِيَةَ بِالظَّالِمِينَ، وَالثَّالِثَةَ بِالْفَاسِقِينَ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ الْيَهُودِ، وَالثَّالِثَةَ نَزَلَتْ فِي أَحْكَامِ النَّصَارَى. وَقِيلَ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إِنْكَارًا لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْحَقِّ مَعَ اعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَحَكَمَ بِضِدِّهِ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْحَقِّ جَهْلًا وَحَكَمَ بِضِدِّهِ فَهُوَ فَاسِقٌ. وَقِيلَ: الْكَافِرُ وَالظَّالِمُ وَالْفَاسِقُ كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْكُفْرُ، عَبَّرَ عَنْهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ وَاجْتِنَابِ صُورَةِ التَّكْرَارِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: [اتِّفَاقُ الْفَاصِلَتَيْنِ وَالْمُحَدِّثُ عَنْهُ مُخْتَلِفٌ] عَكَسَ هَذَا اتِّفَاقُ الْفَاصِلَتَيْنِ وَالْمُحَدِّث عَنْهُ مُخْتَلِفٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (الْآيَةَ: 58) إِلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الْآيَةَ: 58)، ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الْآيَةَ: 59). وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْأُولَى: (عَلِيمٌ) بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ (حَكِيمٌ) فِي بَيَانِ مُرَادِهِ. وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: (عَلِيمٌ) بِمَصَالِحَ الْأَنَامِ (حَكِيمٌ) بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَوَابِ عَنْ حِكْمَةِ التَّكْرَارِ.
تَنْبِيهٌ: [تَمْكِينُ الْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَتْ لَهُ الْفَاصِلَةُ] حَقُّ الْفَاصِلَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ تَمْكِينُ الْمَعْنَى الْمَسُوقِ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الْبَقَرَةِ: 129)، وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّ بَعْثَ الرَّسُولِ تَوْلِيَةٌ، وَالتَّوْلِيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ عَزِيزٍ غَالِبٍ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَتَعْلِيمُ الرَّسُولِ الْحِكْمَةَ لِقَوْمِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى حِكْمَةِ مُرْسِلِهِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْمُرْسِلِ وَالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَكِيمًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ اقْتِرَانُهُمَا مُنَاسِبًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 182) وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْخَتْمِ مَحْمُولٌ عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: إِنَّ مَنْ حَضَرَ الْمُوصِيَ فَرَأَى مِنْهُ جَنَفًا عَلَى الْوَرَثَةِ فِي وَصِيَّتِهِ مَعَ فَقْرِهِمْ، فَوَعَظَهُ فِي ذَلِكَ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى رَضُوا، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَفُورٌ لِلْمُوصِي إِذَا ارْتَدَعَ بِقَوْلِ مَنْ وَعَظَهُ، فَرَجَعَ عَمَّا هَمَّ بِهِ، وَغُفْرَانُهُ لِهَذَا بِرَحْمَتِهِ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَالْإِثْمُ الْمَرْفُوعُ عَنِ الْقَائِلِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِثْمَ التَّبْدِيلِ السَّابِقِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} (الْبَقَرَةِ: 181) يَعْنِي مِنَ الْمُوصِي؛ أَيْ لَا يَكُونُ هَذَا الْمُبَدِّلُ دَاخِلًا تَحْتَ وَعِيدِ مَنْ بَدَّلَ عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ تَبْدِيلَ هَذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً، فَلَا يَكُونُ كَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ مَوَاضِعُ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الْمَائِدَةِ: 118)، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يُوهِمُ أَنَّ الْفَاصِلَةَ " الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "، وَكَذَا نُقِلَتْ عَنْ مُصْحَفِ أُبَيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ شَنْبُوذٍ، وَلَكِنْ إِذَا أُنْعِمَ النَّظَرُ عُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حُكْمَهُ، فَهُوَ الْعَزِيزُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيزَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ هُوَ الْغَالِبُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَّهُ يَعِزُّهُ عِزًّا إِذَا غَلَبَهُ، وَوَجَبَ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَكِيمِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَكِيمَ مَنْ يَضَعُ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُخْفِي وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ، فَيَتَوَهَّمُ الضُّعَفَاءُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْحِكْمَةِ، فَكَانَ فِي الْوَصْفِ بِالْحَكِيمِ احْتِرَاسٌ حَسَنٌ، أَيْ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ الْعَذَابَ فَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْكَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ، وَالْحِكْمَةُ فِيمَا فَعَلْتَهُ. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ " الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَطَعَ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (النِّسَاءِ: 48)، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَقَامٌ تَبَرٍّ فَلَمْ يَذْكُرِ الصِّفَةَ الْمُقْتَضِيَةَ اسْتِمْطَارَ الْعَفْوِ لَهُمْ وَذَكَرَ صِفَةَ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْغَالِبُ. وَقَوْلُهُ: الْحَكِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ إِنْ عَفَا عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ. وَقِيلَ: لَيْسَ هُوَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْغُفْرَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى تَسْلِيمِ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ هُوَ أَمَلَكُ لَهُمْ، وَلَوْ قِيلَ: " فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " لَأُوهِمَ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلَا يَسُوغُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ حُكْمُهُ لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَهُمْ عِبَادُهُ، عَذَّبَهُمْ أَوْ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ، فَلِأَنَّ الْمَعْنَى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، تُعَذِّبُ مَنِ الْعَادَةُ أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْعُبُودِيَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ: يَا رَبِّ إِنْ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيتُ فَأَنْتَ لَا تَنْسَى وَلَا تَمُوتُ. وَاللَّهُ لَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى وَلَا يَمُوتُ، أَخْطَأَ رُؤْبَةُ أَوْ أَصَابَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَخْطَأْتُ تَجَاوَزْتَ لِضَعْفِي وَقُوَّتِكَ، وَنَقْصِي وَكَمَالِكَ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ ": {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التَّوْبَةِ: 71)، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الْآيَةُ: 5). وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ غَافِرٍ فِي قَوْلِ السَّادَةِ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الْآيَةُ: 8). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (النُّورِ: 9 وَ10) فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ أَنَّ الْفَاصِلَةَ " تَوَّابٌ رَحِيمٌ "؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّوْبَةِ، وَخُصُوصًا مِنْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنَّ هَاهُنَا مَعْنًى دَقِيقٌ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ: حَكِيمٌ؛ وَهُوَ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى فَائِدَةِ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّعَانِ وَهِيَ السَّتْرُ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْعَظِيمَةِ، وَذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ الْحِكَمِ، فَلِهَذَا كَانَ " حَكِيمٌ " بَلِيغًا فِي هَذَا الْمَقَامِ دُونَ " رَحِيمٌ ". وَمِنْ خَفِيِّ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الْآيَةَ: 29). وَقَوْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْآيَةَ: 29) فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى الذِّهْنِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الْخَتْمُ بِالْقُدْرَةِ، وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْخَتْمُ بِالْعِلْمِ، لَكِنْ إِذَا أُنْعِمَ النَّظَرُ عُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ التِّلَاوَةُ فِي الْآيَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (الْأَنْعَامِ: 147) مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْخِطَابِ " ذُو عُقُوبَةٍ شَدِيدَةٍ "؛ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ نَفْيًا لِلِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّهْدِيدِ، وَمَعْنَاهُ: لَا تَغْتَرُّوا بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَذَابَهُ عَنْكُمْ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} (النَّبَأِ: 37). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الْأَنْفَالِ: 49)، فَمُنَاسَبَةُ الْجَزَاءِ لِلشَّرْطِ أَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشْرَ، عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ زُهَاءَ أَلْفٍ، مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 49) حَتَّى أَقْدَمُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ عَدَدًا أَوْ أَكْثَرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَتَثْبِيتًا لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الْأَنْفَالِ: 49) فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 44) فَإِنْ قِيلَ مَا وَجْهُ الْخِتَامِ بِالْحِلْمِ وَالْمَغْفِرَةِ عُقَيْبَ تَسَابِيحِ الْأَشْيَاءِ وَتَنْزِيهِهَا؟ فِي الْقُرْآنِ أَجَابَ صَاحِبُ " الْفُنُونِ " بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إِنْ فَسَّرْنَا التَّسْبِيحَ عَلَى مَا دَرَجَ فِي الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعِبَرِ، وَأَنَّهَا مُسَبِّحَاتٌ بِمَعْنَى مُوَدِّعَاتٍ مِنْ دَلَائِلِ الْعِبَرِ وَدَقَائِقِ الْإِنْعَامَاتِ وَالْحِكَمِ مَا يُوجِبُ تَسْبِيحَ الْمُعْتَبِرِ الْمُتَأَمِّلِ، فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ إِنَّهُ كَانَ مِنْ كَبِيرِ إِغْفَالِكُمُ النَّظَرُ فِي دَلَائِلِ الْعِبَرِ مَعَ امْتِلَاءِ الْأَشْيَاءِ بِذَلِكَ. وَمَوْضِعُ الْعُتْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يُوسُفَ: 105)، كَذَلِكَ مَوْضِعُ الْمَعْتَبَةِ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 44)، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفُوا بِالتَّأَمُّلِ مَا يُوجِبُ الْقُرْبَةَ لِلَّهِ، مِمَّا أَوْدَعَ مَخْلُوقَاتِهِ بِمَا يُوجِبُ تَنْزِيهَهُ، فَهَذَا مَوْضِعُ حِلْمٍ وَغُفْرَانٍ عَمَّا جَرَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالْإِهْمَالِ. الثَّانِي: إِنْ جَعَلْنَا التَّسْبِيحَ حَقِيقَةً فِي الْحَيَوَانَاتِ بِلُغَاتِهَا فَمَعْنَاهُ: الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تُسَبِّحُهُ وَتُحَمِّدُهُ، وَلَا عِصْيَانَ فِي حَقِّهَا، وَأَنْتُمْ تَعْصُونَ، فَالْحِلْمُ وَالْغُفْرَانُ لِلتَّقْدِيرِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْعِصْيَانُ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَوْلَا بَهَائِمُ رُتَّعٌ، وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي أَوَّلِهَا: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 44) أَيْ أَنَّهُ كَانَ لِتَسَابِيحِ الْمُسَبِّحِينَ حَلِيمًا عَنْ تَفْرِيطِهِمْ، غَفُورًا لِذُنُوبِهِمْ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الشُّورَى: 5)، وَكَأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: إِمَّا الْعَفْوُ عَنْ تَرْكِ الْبَحْثِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَهْمِ، لِمَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعِبَرِ، وَأَنْتُمْ عَلَى الْعِصْيَانِ. أَوْ يُرِيدُ بِهَا الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تُسَبِّحُهُ، وَمِنْهَا مَا يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ، فَيَغْفِرُ عِصْيَانَهُمْ بِتَسَابِيحِهِمْ.
تَنْبِيهٌ: [قَدْ تَكُونُ الْفَاصِلَةُ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ] قَدْ تَكُونُ الْفَاصِلَةُ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْغَضِّ فِي سُورَةِ النُّورِ: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) وَقَوْلِهِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِطَلَبِ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 186)، وَقِيلَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ أَيْ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُونَ لِلْإِرْشَادِ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ ذُكِرَتْ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ وَتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَتَعْلِيمِهِمُ الدُّعَاءَ فِيهِ. وَأَنَّ أَرْجَى أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ فِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
[تَابِعُ السَّادِسِ مِنَ التَفْرِيعَاتٍ: ائْتِلَافُ الْفَوَاصِلِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (طه: 61). وَقَوْلِهِ: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 21). وَقَوْلِهِ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 37). وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (الْمَائِدَةِ: 39). وَقَوْلِهِ: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (التَّوْبَةِ: 70). وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يُونُسَ: 19). وَقَوْلِهِ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (الْأَنْعَامِ: 31) فَجَعَلَ الْفَاصِلَةَ يَزْرُونَ لِجِنَاسِ أَوْزَارِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: {عَلَى ظُهُورِهِمْ} وَلَمْ يَقُلْ: " عَلَى رُءُوسِهِمْ "؛ لِأَنَّ الظَّهْرَ أَقْوَى لِلْحَمْلِ، فَأَشَارَ إِلَى ثِقَلِ الْأَوْزَارِ. وَقَوْلِهِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (نُوحٍ: 10). وَقَوْلِهِ: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (الْأَحْزَابِ: 37). وَقَوْلِهِ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النِّسَاءِ: 166). وَقَوْلِهِ: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التَّوْبَةِ: 108).
وَسُمِّيَ بِهِ لِكَوْنِ نَفْسِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى آخِرِهِ، نَزَلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْوِشَاحِ، وَنَزَلَ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَآخِرَهُ مَنْزِلَةَ الْعَاتِقِ وَالْكَشْحِ اللَّذَيْنِ يَجُولُ عَلَيْهِمَا الْوِشَاحُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْفَاصِلَةَ تُعْلَمُ قَبْلَ ذِكْرِهَا. وَسَمَّاهُ ابْنُ وَكِيعٍ " الْمَطْمَعَ "؛ لِأَنَّ صَدْرَهُ مَطْمَعٌ فِي عَجْزِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 14). وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 33)، فَإِنَّ مَعْنَى اصْطِفَاءِ الْمَذْكُورِينَ يُعْلَمُ مِنْهُ الْفَاصِلَةُ؛ إِذِ الْمَذْكُورُونَ نَوْعٌ مِنْ جِنْسِ الْعَالَمِينَ. وَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (يس: 37)، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ حَافِظًا لِهَذِهِ السُّورَةِ مُتَيَقِّظًا إِلَى أَنَّ مَقَاطِعَ فَوَاصِلِهَا النُّونُ الْمُرْدَفَةُ، وَسَمِعَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} عَلِمَ أَنَّ الْفَاصِلَةَ (مُظْلِمُونَ)، فَإِنَّ مَنِ انْسَلَخَ النَّهَارُ عَنْ لَيْلِهِ أَظْلَمَ مَا دَامَتْ تِلْكَ الْحَالُ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزَّلْزَلَةِ: 6- 8)، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يَدُلُّ عَلَى التَّقْسِيمِ. وَقَوْلِهِ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الْمَلِكِ: 13- 14). وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْبَقَرَةِ: 20).
وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ آخِذٌ فِيهِ، وَبَلَغَ إِلَى زِيَادَةٍ عَلَى الْحَدِّ يُقَالُ: أَوْغَلَ فِي الْأَرْضِ الْفُلَانِيَّةِ إِذَا بَلَغَ مُنْتَهَاهَا، فَهَكَذَا الْمُتَكَلِّمُ إِذَا تَمَّ مَعْنَاهُ ثُمَّ تَعَدَّاهُ بِزِيَادَةٍ فِيهِ فَقَدْ أَوْغَلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الْمَائِدَةِ: 50)، فَإِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا}، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى فَاصِلَةٍ تُنَاسِبُ الْقَرِينَةَ الْأَوْلَى، فَلَمَّا أَتَى بِهَا أَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (النَّمْلِ: 80) فَإِنَّ الْمَعْنَى قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعْلَمَ تَمَامُ الْكَلَامِ بِالْفَاصِلَةِ فَقَالَ: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}. ، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى مُدْبِرِينَ وَقَدْ أَغْنَى عَنْهَا " وَلَّوْا " قُلْتُ: لَا يُغْنِي عَنْهَا " وَلَّوْا "، فَإِنَّ التَّوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ بِجَانِبٍ دُونِ جَانِبٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 83)، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الْجَانِبِ هُنَا مَجَازًا. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ، أَرَادَ تَتْمِيمَ الْمَعْنَى بِذِكْرِ تَوَلِّيهِمْ فِي حَالِ الْخِطَابِ؛ لِيَنْفِيَ عَنْهُمُ الْفَهْمَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنَ الْإِشَارَةِ؛ فَإِنَّ الْأَصَمَّ يَفْهَمُ بِالْإِشَارَةِ مَا يَفْهَمُ السَّمِيعُ بِالْعِبَارَةِ، ثُمَّ إِنَّ التَّوَلِّيَ قَدْ يَكُونُ بِجَانِبٍ، مَعَ لَحَاظِهِ بِالْجَانِبِ الْآخَرِ، فَيَحْصُلُ لَهُ إِدْرَاكُ بَعْضِ الْإِشَارَةِ، فَجَعَلَ الْفَاصِلَةَ مُدْبِرِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّوَلِّيَ كَانَ بِجَمِيعِ الْجَوَانِبِ بِحَيْثُ صَارَ مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا مُسْتَدْبَرًا، فَاحْتَجَبَ الْمُخَاطِبُ عَنِ الْمُخَاطَبِ أَوْ صَارَ مِنْ وَرَائِهِ، فَخَفِيَتْ عَنْ عَيْنِهِ الْإِشَارَةُ، كَمَا صُمَّ أُذُنَاهُ عَنِ الْعِبَارَةِ، فَحَصَلَتِ الْمُبَالَغَةُ مِنْ عَدَمِ الْإِسْمَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ بُولِغَ فِيهِ بِنَفْيِ الْإِسْمَاعِ أَلْبَتَّةَ؛ فَهُوَ مِنْ إِيغَالِ الِاحْتِيَاطِ الَّذِي أُدْمِجَتْ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْإِسْمَاعِ. وَقَدْ يَأْتِي الِاحْتِيَاطُ فِي غَيْرِ الْمَقَاطِعِ مِنْ مَجْمُوعِ جُمَلٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي ضُرُوبٍ مِنَ الْكَلَامِ شَتَّى، يَحْمِلُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ (الْإِسْرَاءِ: 88). وَقَوْلِهِ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 23). وَقَوْلِهِ: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} (هُودٍ: 13) كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يَجْحَدُ: مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ دِرْهَمًا وَلَا دَانَقًا وَلَا حَبَّةً وَلَا كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا. وَلَوْ قَالَ: " مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا " لَأَغْنَى فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ التَّفْصِيلَ أَدَلُّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَعَلَى شِدَّةِ الِاسْتِبْعَادِ فِي الْإِنْكَارِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس: 21) فَإِنَّ الْمَعْنَى تَمَّ بِقَوْلِهِ: " أَجْرًا "، ثُمَّ زَادَ الْفَاصِلَةَ لِمُنَاسَبَةِ رُءُوسِ الْآيِ، فَأَوْغَلَ بِهَا كَمَا تَرَى؛ حَيْثُ أَتَى بِهَا لِقَصْدِ مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ.
فَصْلٌ: فِي ضَابِطِ الْفَوَاصِلِ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ، وَلِمَعْرِفَتِهَا طَرِيقَانِ: تَوْقِيفِيٌّ وَقِيَاسِيٌّ: (الْأَوَّلُ): التَّوْقِيفِيُّ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَمِّ سَلَمَةَ لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، وَقَرَأْتُ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إِلَى {الدِّينِ} تَقِفُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ، فَمَعْنَى يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً؛ أَيْ يَقِفُ عَلَى كُلِّ آيَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ لِيُعَلِّمَ رُءُوسَ الْآيِ. قَالَ: وَوَهَمَ فِيهِ مَنْ سَمَّاهُ وَقْفَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنْ كَانَ تَعَبُّدًا فَهُوَ مَشْرُوعٌ لَنَا، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَلَا، فَمَا وَقَفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ فَاصِلَةٌ، وَمَا وَصَلَهُ دَائِمًا تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاصِلَةٍ، وَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَوَصَلَهُ أُخْرَى احْتَمَلَ الْوَقْفُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِهِمَا، أَوْ لِتَعْرِيفِ الْوَقْفِ التَّامِّ، أَوْ لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَاصِلَةٍ أَوْ فَاصِلَةً وَصَلَهَا لِتَقَدُّمِ تَعْرِيفِهَا. (الثَّانِي): الْقِيَاسِيُّ، وَهُوَ مَا أُلْحِقَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، لِمُنَاسِبٍ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ؛ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مَحَلُّ فَصْلٍ أَوْ وَصْلٍ، وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ جَائِزٌ، وَوَصْلُ الْقُرْآنِ حُكْمُهُ كُلُّهُ جَائِزٌ، فَاحْتَاجَ الْقِيَاسِيُّ إِلَى طَرِيقٍ تَعْرِفُهُ، فَأَقُولُ: فَاصِلَةُ الْآيَةِ كَقَرِينَةِ السَّجْعَةِ فِي النَّثْرِ، وَقَافِيَةُ الْبَيْتِ فِي النَّظْمِ، وَمَا يُذْكَرُ مِنْ عُيُوبِ الْقَافِيَةِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَذْوِ وَالْإِشْبَاعِ وَالتَّوْجِيهِ، فَلَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْفَاصِلَةِ، وَجَازَ الْإِيغَالُ فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ وَقَافِيَةِ الْأُرْجُوزَةِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى آخَرَ بِخِلَافِ قَافِيَةِ الْقَصِيدِ. وَمِنْ ثَمَّ تَرَى {يَرْجِعُونَ} مَعَ {عَلِيمٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 72 وَ 73) وَ {الْمِيعَادَ} مَعَ {الثَّوَابِ} (آلِ عِمْرَانَ: 194- 195)، وَ {الطَّارِقُ} مَعَ {الثَّاقِبُ} (الطَّارِقِ: 1- 3). وَالْأَصْلُ فِي الْفَاصِلَةِ وَالْقَرِينَةِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ وَالسَّجْعَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعَ الْعَادُونَ عَلَى تَرْكِ عَدِّ {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (النِّسَاءِ: 133) وَ {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} بِالنِّسَاءِ (الْآيَةَ: 172) وَ {كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} بِسُبْحَانَ (الْإِسْرَاءِ: 59) وَ {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} بِمَرْيَمَ (الْآيَةَ: 97) وَ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بِـ " طه " (الْآيَةَ: 113) وَ {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (الطَّلَاقِ: 11) وَ {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بِالطَّلَاقِ (الْآيَةَ: 12) حَيْثُ لَمْ يُشَاكِلْ طَرَفَيْهِ. وَعَلَى تَرْكِ عَدِّ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} بِآلِ عِمْرَانَ (الْآيَةَ: 83) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} بِالْمَائِدَةِ (الْآيَةَ: 50) وَعَدُّوا نَظَائِرَهَا لِلْمُنَاسَبَةِ نَحْوَ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} بِآلِ عِمْرَانَ (الْآيَةَ: 190) وَ {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بِالْكَهْفِ (الْآيَةَ: 15) وَ {وَالسَّلْوَى} بِـ " طه " (الْآيَةَ: 80). وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الْأَمْرَانِ فِي كَلِمَةٍ فَيُخْتَلَفُ فِيهَا، فَمِنْهَا الْبَسْمَلَةُ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْضُ آيَةٍ فِي النَّمْلِ (الْآيَةَ: 30)، وَبَعْضُهَا فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ (الْآيَةَ: 2)، وَنَزَلَتْ أَوَّلُهَا فِي بَعْضِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. فَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ نَزَلَتْ فِيهِ عَدَّهَا آيَةً، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ خِلَافًا لِلدَّانِيِّ. وَمَنْ قَرَأَ بِحَرْفٍ لَمْ تَنْزِلْ مَعَهُ لَمْ يَعُدَّهَا، وَلَزِمَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ أَنْ يَعُدَّ عِوَضَهَا. وَهُوَ يَعُدُّ {اهْدِنَا} لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ. أَيْ قِرَاءَةَ الصَّلَاةِ تُعَدُّ مِنْهَا، وَلَا لِلْعَبْدِ إِلَّا هَاتَانِ، وَ {الْمُسْتَقِيمَ} مُحَقَّقٌ، فَقُسِّمَتَا بَعْدَهَا قِسْمَيْنِ، فَكَانَتْ {عَلَيْهِمُ} الْأُولَى وَهِيَ مُمَاثِلَةٌ فِي الرَّوِيِّ لِمَا قَبْلَهَا. وَمِنْهَا حُرُوفُ الْفَوَاتِحِ، فَوَجْهُ عَدِّهَا اسْتِقْلَالُهَا عَلَى الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَمُنَاسَبَةِ الرَّوِيِّ وَالرِّدْفِ. وَوَجْهُ عَدَمِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالتَّعَلُّقُ عَلَى الْجُزْءِ. وَمِنْهَا بِالْبَقَرَةِ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الْآيَةَ: 10) وَ {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (الْبَقَرَةِ: 11)، فَوَجْهُ عَدِّهِ مُنَاسَبَةَ الرَّوِيِّ، وَوَجْهُ عَدَمِهِ تَعَلُّقُهُ بِتَالِيهِ. وَمِنْهَا: {إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} بِآلِ عِمْرَانَ (الْآيَةَ: 49) حَمَلًا عَلَى مَا فِي الْأَعْرَافِ (الْآيَةَ: 105) وَالشُّعَرَاءِ (الْآيَةَ: 17) وَالسَّجْدَةِ (الْآيَةَ: 23) وَالزُّخْرُفِ (الْآيَةَ: 59). وَمِنْهَا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} بِالزُّمَرِ (الْآيَةَ: 17) لِتَقْدِيرِ تَالِيهِ مَفْعُولًا وَمُبْتَدَأً. وَمِنْهَا: وَ {الطُّورِ} وَ {الرَّحْمَنُ} وَ {الْحَاقَّةُ} وَ {الْقَارِعَةُ} وَ {الْعَصْرِ} حَمَلًا عَلَى {وَالْفَجْرِ} {وَالضُّحَى} لِلْمُنَاسَبَةِ، لَكِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْكَمِّيَّةِ.
|